samedi 26 juillet 2008

السلهام




تستيقض القرية كل صباح بنفس الوجه المتعب المغبر المشقق ، الهيئة التي ذأبت عليها منذ آخر موسم مطير، كوجه عجوز ضامرة الصدر تعبت من إعداد متكأ لربيع عمرها عله ينغوي و يعود ليزورها كما كان في الزمن الماضي. كيف يهتدي الربيع وحده لعنوان لم تقده إليه سحابة شتاء!.
أتت سنة عجفاء على أغلب مخزون الماء و الشعير و الزيت و الأحلام و الفحولة، فركب الرجال طرق الرحيل كي لا يصبح مائهم أغور من ماء الأبار المالحة، و العيون التي لم تعد تتدفق كما في الماضي ، أو يصبحوا مجرد وادٍ مليء بتراب ندي يُذكر بمياه إخرقته ذات عام كواد شيشاوة .
حان دور عمي هو الآخر ليسلك إحدى مسالك الجبل نحو هضبة إيمينتانوت ليشتغل نادل بأول مقهى يُقبَل به بعد أن كثر النازحون. هكذا صر ت لا أراه إلا مرة أو مرتين بالأسبوع ، حين يعود ليلا يتسلل إلى غرفة جدتي ليضع لي حلوة و قبلة تحت الوسادة ، حتى إذا ما تقلبت ليلا تعثرت بهما و إستيقظت باكرا لألقائه ، كثيرا ما كنت أفتش وسادتي أكثر من مرة خلال الليل و الصباح. جميلة طريقته في إعلامي بحضوره ؛ في حياتي لم يحرص عليها رجل غيره.
ذات مرة صادفت قطعة شكولاطة مغلفة في قطعة ورق لا علاقة لها بها، بقيت ممسكة بها إلى أن رأيت أول شعاع الشمس عبر ألواح باب الغرفة الغير مصبوغ ، فغادرت الغرفة بحثا عنه في باقي الغرف متجنبتا سؤال رقية عنه التي ستنهرني حتما و تكلفني لامحالة بإعداد الفطور معها، حين وصلت لغرفة الضيوف المجاورة للباب وجدتها مقفلة كالعادة و باب البيت مفتوح ، إتجهت إليه لعل جدتي أخرجت نعاجها الجائعات ؛ التي صارت مجرد هياكل مكسوة بالصوف لراع يقودها للغابة بأعلى الجبل علها تصادف شيء تأكله هناك بعد أن شحت الحقول و المراعي و إنتهى التبن منذ شهور .
عند الباب ألفيت جدتي واقفة عند رأس عمي الجالس الملتحف بسلهامه الأسود سلمت عليهما، وقفت إلى جانب جدتي التي كانت قد إنتهت لتوها من سؤاله ؛ عن حاله بالمقهى و أخبار عمتي فاطمة التي تسكن بإيمنتانوت مع زوجها و أبنائها الخمسة، و غادرتنا إلى البيت.. بقيت في مكاني أمص الشكلاطة ببطء كي لا تذوب و تنتهي بسرعة ؛ لا أدري كيف إقتنعت أن فتح الهدية أمام من المُهْدِي و التلذذ بأكلها أمامه إن كانت تؤكل طريقة مثلى لإخباره أن الهدية قد أعجبتنا!. كان الصباح بارد شيء ما فضممت يدي إلى صدري، لاحظ عمي حركتي فأفرد سلهامه و أشار إليَّ دون أن يقول شيء، جلست على ركبتيه، فوجدته يطوقني بدراعيه و بطرفي السلهام الذي ضم دفئه جسدينا معا ، أحس ظهري بعلوا و هبوط الأنفاس بصدره ، كان صوته خافتا و قريبا جدا من أذني و هو سيألني :" هل أنت بخير؟"
جميل أن تُسأل إن كنت بخير ـــ في وقت لا أحد يهتم أو يتصور أن لا تكون بخير طالم أنك تجلس لطاولة الطعام أربع أو خمس مرات، و تستحم كل خمسة عشر يوما، وتتكلم بلا توقف طيلة النهار، لدى فأنت حتما بخير و لاداعي لسؤالك ـــ و الأجمل أن يوشوش السؤال في أذنك؛ قربه يوحي لك بأنه أصدق ما سمعت .
أجبته أني بخير ، و في أعماقي تحسرت أن أبي لم يهديني لحظة دفئ و قرب مشابهة، ماذا كان ينقصه طالما أن لديه سلهاما مماثل؟! لا أذكر أن عمي سألني غير ذاك السؤال، و إنصرف ببصره يتأمل البيوت الثلاث المقابلة لبيته، أما المارة فينذر مرورهم بحينا في تلك الساعة
.

dimanche 20 juillet 2008

نصف دورة



كانو يبتعدون مثيرين الغبار ورائهم و الإحساس بالنبذ داخلي، تتبعتْ عيناي سيارتهم في ذهول طفولي ساذج؛ هل فعلا كانوا يعنون ما أقدموا عليه، أم أنهم سيقومون بنصف دورة في أية لحظة ليعتذروا عن مزحتهم الثقيلة تلك و يأخذوني معهم؟
إختفت السيارة خلف الجبل و تركت أثرا قد يقودني إلى خطاهم، لكن لن تقودهم إليَّ ، لأن من السهل إقتفاء أثر رحيل مَنْ رَحَل للوصول إليه ، و صعب على مَنْ رحل أن يقتفي أثره ليعود للحظة ما قبل عناق رحيل، لأنه حين يعود يختار طرق و أسباب و درائع و حمقات أخرى للعودة ليست بالضرورة تلك التي سلكها ليرحل، هم أيضا لم يعودوا من ذات الطريق الذي تركوني عليه ؛ فبقيت مدينتا لهم بنصف دورة إستكثروها و إعتذار ترفعوا عنه. مريع أن تحس في ذالك السن بالحزن يجتاح كيانك الغض، و لا تعرف كيف ترده، و لا ما تصنع به حين يتكوم بذالك الحجم بداخلك، قبل أن تتعلم مجارته و التعايش معه كأنه عضوا أخرى بين أعضائك التي ولدت بها، أو ضيف عنيد يبقى حين تريده أن يرحل، و يرحل حين تدعوه ليبقى، تعرف في جميع الأحوال أنه ضيف و إن طال مقامه سيرحل لكن في الآن ذاته تعرف أنه ضيف شريد، سيعود إليك لأن لا مأوى له سوى صدرك ذو الحقب التاريخية الموغلة في الأنين، و سيكون هناك دائما مناسبة ما تبيح له تلك العودة ، صحيح أن التسّمر بزاويا الشرود و الترقب دون أن تبصر ، دون أن تنتظر ، أو تتمنى شيء محددا مضجر و مملل لكن التعود يهون كل شيء. لم أكن لحظتها طفلة سافر أهلها فحسب، لكن كنت مدركة أني خطأ متروكا خلف كي لا ينشغلوا عن أحلامهم بحراسته! نقل عمي إبراهيم أغراضي إلى بيته ، و بعد أيام قادتني جدتي إلى هناك،
حينها أدركت ما معنى ما حل بي ، فمن يومها صار عليَّ أن أستأذن لألمس الأشياء،لأخرج ،لأكل، لأغير ملابسي، لأنام و لأحلم . كان أيضا يجب أن أجسد دور المتخلى عنها حين تأتي إحدى الجارات و تسرد عليها جدتي قصة رحيل إبنها، الذي لم أناديه بأبي من يوم حدق إليَّ قبل يومين من السفر و قال بصوت مهدد:" إن سمعت أنك تكلمتي مع أي رجل سأتي لأذبحك!" كان فعل الذبح ملفوظا بقسوة كافي ليشعرني أنه قد تم، و أني ربما مضرجت بدمائي أسفل رجليه، و حدها عيني تأكدت من أنني أتوهم المشهد ، حين رأيته يخفض إصبعه الذي كان يشير به إليّ و يولي إلى شؤونه، حين أتذكر ذالك أضحك لأنه قد تنبأ بما ستأول إليه أموري لاحقا، أليس من العقوق أن لا أحقق نبوأته الأخير، لعل ذالك يرفعه إلى مصاف الأنبياء !. ضلت جدتي تحكي أسباب رحيلهم لكل زائراتها لأشهر متوالية بتفاصيل جديدة كل مرة لا أدري هل كانت تجزع لرحيل إبنها فتستمتع بذكره ، أم كانت تريد بشكل لا واعي أن تذكرني به كي لا أنسى أنه كان أبي و أن عمي إبراهيم ليس بأبي حتى و إن كان يناديني بإبنته! . في كل مرة تصاحب حكيها بإحتضني و تتلوا عبارات الشفقة و الدعوات بعودة الغائب سالما إلى الديار ، لم تشمل دعوتها أمي أبدا و كأنها لم تكن موجودة أبدا، لا أدري أكانت خلافتهما كافية لتتجاهل ذكرها! ! كرهت نظرات الشفقة و همساتها التي زرعتها جدتي في كل معارفها و زائراتها، تواطئت حتى مع الصغار، فكنت إذا ما لعبت مع بنات الجيران تخرج لتوصيهن ، و تعطيهن هديا أشبه برشاوي علنية ليحسنّ معاملتي. سلوك جدتي زاد من إرباكي لكنه قربني منها شيئا فشيئا حينها ، عكس رقية زوجة عمي التي لم تستسغ وجودي أبدا، ربما بسبب إصرار عمي على التصرف و كأني إبنته التي شاءت أقداره و أعضائه أن لا يلدها
.

mercredi 9 juillet 2008

الرحيل


أعود الليلة لتجسس على الذاكرة، و الإنصات لهذيانها، بعد غياب غير مأسوف عليه، لأني إمرأة تستمتع بالغياب كما تستمتع بالحضور، تتقن دور الجاسوسة كما تثقن دور القديسة.

على الأوراق لا تكاد تميز بين الخيال و الواقع لأن لها قابيلة عجيبة لتصديق كل شيء . و مع ذالك تكفيني نظرات إبني المستيقظ و صراخه بحثا عن ثديي ليعيدني لواقع الأشياء من حولي، و يكفيني حضن حبيبي أو شيء من ريقه لأثمل و أصل للفناء . لا أدري كيف تعلمت تقدير اللحظة و الإنسياب مع تموجات الحياة مهما كانت قاسية؟ حين أفكر فيما عانية أتساءل من أين تأتيني كل هذه القوة للإستمتاع بالأشياء البسيطة جدا أو الحقيرة حتى! أحد أصدقائي صدمني قبل أيام و هو يقول لي :" أكيد أن هناك خَلَلٌ بعينيكِ،لأنكِ ترين البشاعة جمال، و القبح حسن ، و لو أنك عاينت مجاعة أو كارثة طبيعية أو حربا لا تغزَّلتي فيها!! صديقتي يجب أن تُعجلي بفحص عينيك لأنهما ليستا طبيعيتين أبدا.!" ربما هو على حق، لكن منذ متى يجب أن يتشابه الناس لكي تدور الأرض!. حين أقف أمام المرآة عارية قد لا تختلف الصورة المنعكسة عن جسد أية غانية قد تمنحه بمقابل مادي أو معنوي لأول متسول تلتقيه؛ لكن أعرف أنني إمرأة إستثنائية و لا أنتظر أن يقتنع بذالك سواي، لأن كل مآسي لم تُضعِف تقديري للإنسانة التي بداخلي و لا أثق كثيرا في سواها، فهي وحدها إحتملت معي ما مر دون أن تتخلى عني يوما لتؤثر الإنتحار على مرافقتي؛ لم أسمع أن أحد قَبََّل نفسه كما أفعل ! فهذا ما علمتنيه الوحدة، حتى و إن كنت محاطة بجوقة لا تحتفي بغيري!، قد تقولون مجنونة أو شاذة، لا يهمني رأيكم كيفما كان، فقد لن تختلفون عن بائع الورد الذي تَعَودَني في محله كل صباح حين أخرج لشراء الخبز و الجرائد، و الذي دفعه حب تملك المعرفة كما دفع آدم من قبل ليقول بذكاء الغبي و هو يلف لي الوردتين:" لقد جلبت بطاقات إهداء بها عبارات جميلة يمكن أن أضع لك واحدة بين الوردتين ، قد تعجبه.!" لا أدري ما الذي حداها لتلك الصياغة آسذاجته أم فضوله المقيت! أجبته:" شكرا لا حاجة للبطاقة؛ الوردتين تقولان كل شيء!" لم أشاء أن أعطيه يقينا يريحه ظنه ، فماذا كان سيقول لو أخبرته ساعتها أنني أهدي الوردتين لي؛ كي لا أنتظرها من آخر ينسى دوما أن يعود ، و إن عاد سينسى حتما أن يجلب لي الورد!.
حين تحيطك الوحدة من كل جهة؛ فيجب أن تتعلم الإنصات لنفسك لتستمر، وتهبها تعويضات عن الغائبين كي لا تزعجها بالتفكير فيهم و بفداحة ما فعلوا بك ذات يوم قبل الرحيل، فكن كالرب الرحيم و اغفر لهم فهم لايعلمون حجم الألم الذي كانوا سببا فيه، حين يتخلى عنك أقرب الناس فيجب أن تتعلم الوقوف و المشي لتركض من جديد، عليك أن تتعلم الإستغناء عن كل ذات غير ذاتك. و تحاول ترميم ما هُدِّمَ فيك؛ و إن بدا ذالك مستحيل؛ فلا شيء يغنيك من المحاولة تلو المحاولة، و ما الحياة أصلا سوى تعاقب المحاولات.
لا أذكر تاريخ ذالك اليوم بالضبط ، لكن يمكن أن أجزم أنه كان الأسبوع الأخير من غشت1971، أستطيع أن أغمض عيني لأحل في تللك الغرفة أو لتحل هي فيا الأمر سواء، لا أذكر لون ما كنت أرتديه ، وحده طول الغرفة بقي عالقا في ذاكرتي لا أدري هل هي طويلة إلى ذاك الحد أم أن الذاكرة تبالغ فيما تُصوِّرُه لي! في تلك الغرفة قرروا مصيري أو على الأصح أعلنوا ما قرروه في شأني من قبل، حول مائدة المستديرة ذي الثلات أرجل كان يتحلق أبي و عمي و جدتي و أخي الأكبر يناوبون رشفات الشاي و حبات الفستق و اللوز و الكلام عني، كنت مشدوهتا لما أسمع، متتبعتا حركات أرجلهم أسفل المائدة، غير مبالية بدارع أمي التي تطوقني منذ جلسنا بالزاوية الأخرى للغرفة الطويلة لنشرب معهم الشاي أو لنعقد الإجتماع العائلي الأخير الذي لم يكن لنا سوى حق التفرج ، و الإيماء بالرأس إيجابا أو الصمت رفضا، لكي لا نوقظ أخي الرضيع الذي يغفو بجانبنا بتلك الزوية، لا أذكر تفاصيل كلامهم لكني فهمت أنهم سيسافرون و سيتركُنني هنا لأن فرنسا تفسد تربية البنات! نظرت إلى أمي علها تبدي إعتراضا ، علها تتمرد و لو مرة واحدة في حياتها، و تتشبت بي؛ لأني لم أختر أن أكون أنثى و لو كنت غير ذالك لما تجرؤ على تركي لجدة عجوز، و عم عاقر و زوجته الطائشة ، و سنواتي الثمانية لأعيش اليتم دون أن أعرف ماذا يعني. حين لم تحرك أمي ساكنا أمامي توسلاتي الصامت؛ إنتفضت من حضنها تذمرا منها أو عقابا لها، صعدت إلى السطح و أغلقته لأني أعرف أن صعوده كان مرفوضا، لأن سقف البيت كان مهترئ و أي حركة قوية قد تهدمه، في قرارتي تمنيت الآن لو أن حركاتي الضعيفة كانت تكفي لأهدمه فوق رؤوسهم لتكون تلك الغرفة قبرا لهم كما كانت قبرا لي، لكن لم يحدث ذالك و لم أسمع سوى صوت أمي خلف باب السطح تحاول وداعي أو مواستي، لم يصلني كلامها لأن محرك سيارة أبي كان يصرخ في فراغ القرية؛ التي لازالت تقضي قيلولتها، و كأنه كان ينوب عن فم أبي الذي لم يكن يختلف عن محرك "المازوط " ذاك، و من السطح رأيتهم يضعون حقائبهم بالسيارة و يصعد أبي و أخي الأكبر بالأمام، و أمي و أخي الرضيع بالخلف، وحدها أمي من رفعت عينيها الدامعتين نحو السطح لترى شبحي الناحب
.