vendredi 20 mars 2009

الحرز



خطت بي نحو الباب، لا هي إطمئنت لما ورائه، و لا إنقاذت لحدسها و أعادتني للبيت كي لا يختلف قدري عن قدر كل البنات! كان أمرها مربك؛ فبقدر ما تعلن تواطئ أو تغابي بقدر ما تجلي نظراتها إرتياب من آت متربص خلف باب المدرسة.
ألقت سلاما ضاع نصفه بين ثنايا نقاب لحافها، إنزاحت يدها عن معصمي ببطئ بعد أن خلفت غظون حوله، و أردتها باردة مرتجفة!
لحظتها هممت بتعلق بأهداب لحافها لأرجوها أن لا تتركني هنا و تعيدني للبيت، و سأقسم لها برب العزة أن أكنس البيت و أملئ الجرار و أجمع الحطب بدلها و أن لا أعصي لها أمرا، و إن كان ولابد هي تاركتي فلتدخل معي على الأقل و لا تسلمني لأغراب عند الباب.
رد المدير السلام و إنزاح قليلا لألج عبر دفة كان يحاول إغلاقها لتوه، دفعتني يدها من خلف فوجدتني قد تجاوزت العتبة، قبل أن أتابع سيري نحو ساحة المدرسة سمعتها تلفظ بصوت متحشرج رجاء أقرب إلى التوسل ليهتم بي.

حين دُق الجرس و فتح الباب لمحتها مقرفصة في ظل حائط المستوصف، لم أعرف إن كانت قد ذهبت للبيت وعادت لحظتها لتصطحبني، أم أنها بقيت هناك طيلة النهار، هرعت إليها كما هرع الأطفال نحو من كان ينتظرهم، فنهضت بتثاقل و نفضت الغبار عن مؤخرتها و عدَّلت لحافها و سارت أمامي نحو البيت، تأملتها من خلف؛ اللحاف يتكتم على معالمها و إن كان إحدوداب ظهرها بارز شيء ما، و عظمتي وركيها، كانت تذرع الأرض على عجل غير مبالية بالحجارة التي تصطدم بها من حين إلى آخر.
كنت أريدها أن تتبطئ في السير لتحدثني عما يدور برأسها الأشيب و تسألني عما حدث معي بالقسم و ماذا قال المعلم...؟ قد يكون مجرد سؤال سيكون جوابي عليه تأكيدا لها بأنها أهدرت وقتها معي؛ فأنا لم أفهم شيء مما تلفظه المعلم، و لم أفلح حتى في نقل ما في السبورة السوداء على ورقتي، و حين تطلع إلى ورقتي و سألني سؤال لم أفهمه أجبته بصمت لم يعجبه؛ فاستل الورقة من تحت يدي و شطب على خربشتي بصبر نافذ؛ و كتب الأدوات المطلوب إحضارها، و فعل مثل ذالك مع باقي الصف، و حين زاره المدير وشوش له بشيء فإستدار المدير ضاحكا نحونا و قال متكلفا بأمزيغية تعلمها حديثا " لا تفهمون العربية.. آ شلوح ..؟" و قهقها معا.

كان يصلني لهاثها الممزوجا بوقع خطواتها و بألم يعتصر فخدي الأيمن، توقفتُ عن السير، فتوقفت هي الأخرى و استدارت فأمسكت يدي و جرتها قائلة:" تحركي!"
بتذمر صرختُ بأن الحرز الذي ربطتَه بين فخدي قد أدماني، تفحصَت وجهي بنظرات مريبة و تنحت جانبا عن الطريق و رفعت تنورتي و أنزلت سروالي و أزاحت اللثام عن وجهها و دست عينيها لتعاين الحرز المدسوس في صفيحة نحاس قد خدش فخدي، فتحت عقدة خيطه و عدلت ملابسي و علقته بعنقي و شدتني لنتابع سيرنا نحو البيت.
قبل أيام من ذالك اليوم؛ شدت ذاك الحرز إلى فخذي، ربما كانت تلك الموازنة النهائية التي جعلتها تقبل انتسبي للمدرسة.
كان يوما رهيبا لم تمحيه عقود عمري من الذاكرة، قادتني مع أولى أشعة الشمس على ظهر حمار أناخت الأحمال و الجوع ظهره، كنت أمسك بها من خلف دون أن أدري وجهتنا، تجاوزت حدود القرية و اخترقت قرية أخرى لتتوقف أمام بيت أنزلتني و ربطت الحمار و دقت باب خشبي مواربا، أطلت منه امرأة في منتصف العمر، رحبت بها و دعتنا لدخول، قادتنا إلى غرفة تغطي الحصيرة نصف أرضيتها الطينية و بعض الوسائد في إحدى أركانها، جلسنا و غادرتنا المرأة.
بعد مدة جاءت امرأة أخرى في مثل عمر جدتي، سلمت عليها بحرارة من الواضح أنهما صديقتين قديمتين، توالت الأسئلة بينهما، عادة المرأة الأولى بصينية الشاي، دارت الكؤوس بيننا و دار معها الحديث عني، حكت لهما جدتي كيف هاجر أسرتي و انتقلت لبيت عمي و كيف أصر أن يلحقني بالمدرسة، و أنها تخاف من هذا الأمر بالذات و هذا سر زيارتها للالة حبيبة لتصنع لي شيء يقيني من شر الرجال!
أومأت المرأة إيجابا، ثم نهضت و دعتنا للفناء، أتت بكبات صوف أبيض و أخرى حمراء و أعمدة خشبية ساعدتها المرأة الأخرى في تثبيت كل واحد على بعد خطوتين من الآخر، جلس جدتي عند أحدهما و لالة حبيبة عند الآخر، أعطتني كبة الصوف التي ربطت طرفها على العمود، و طلبت أن ألفها على العمود الذي تمسكه جدتي و أعود للفها على العمود الآخر، لم أحصي عدد المرات التي تخلفت بينهما ليس لأنني لم أكن أعرف الحساب بعد؛ لكن لأنني تعبت من اللف بينهما حين وصلت إلى أخر لفة طلبت أن أعقدها على عمود جدتي و قالت مخاطبتا جدتي:" هكذا ستعود إليك دائما مهما كثر لفها و دورانها في الدنيا كما هي الآن". تنهدت جدتي و طلبت منها أن تتعجل.
استلتا الخيوط من العموديين و شبكتها بأعمدة أخرى ليصنعا زربية صغيرة كنت أتتبع أيديهن تربط عقدة تلو عقدة يناوبنا الخيوط البيضاء و الحمراء لتنتهيا من النسج بعد أن انتصف النهار، طلبتا مني أن أقطع الخيوط الرابطة، و لفتاها حولي.
طلبت لالة حبيبة من المرأة الأخرى أن تأتي بماء دافئ و منشفة، كان مخجلا أن أُحمم أمام عيونهن، لكن عزم و توعد جدتي أثناني عن الرفض، طأطأت عيني كي لا أصطدم بعيونهن و هي تراقبني، تعاقبت على جسدي يدي جدتي و لالة حبيبة تدعكان و تتمتمان بدعوات و المرأة الأخرى تصب الماء الممزوج ببودرة أذابتها في الماء الساخن.
انتهى الحمام أسدلوا علي المنشفة، و قدوني إلى الغرفة حيث استقبلنا، فرشت الزبية المنسوجة على الحصير و أمرتني لالة حبيبة أن أستلقي على ظهري وأرفع رجلي و أفتحها بزاوية حادة و امسكت جدتي و المرأة الآخرى برجلي؛ كان الأمر مخجلا إلا أنني تعودت منذ البدأ أن أتجنب نظراتهن، التي أحس بها مسمرة على منطقة واحدة لم أعلم حينها لما يكثرن الاهتمام بها، و دون سبق إعلام دهنت لالة حبيبة يدها بشيء لزج، و شرعت في دعكي بقوة براحتها تارة و بإصبعها الكبير تارة، فجأة اخترقت صرخة جوفي حين ضغطت بقوة فأصابني شيء أشبه بصعقة كهربائية، لم أستطع أن أعتدل في جلستي و لا أن أجمع رجلي دون الصراخ من الألم، نهرتني جدتي و هي تلبسني الملابس قائلة:" أن تتألمي الآن أهون من أن تسبب لنا العار.."
انتهت الطقوس بعد أن أُحرقت البخور مصحوبة بدعوات أن تتحول قطعة جلد إلى جليد أو حديد لن يستطيع أعتى رجل اختراقه.
قبل أن نغادر بيتها أعطت لجدتي حرزا و قالت:" اربطيه بفخذها الأيمن لسبعة أيام و ادفنيه في مكان آمن، و بإذن الله لن يمسها رجل، و إن فعل لن يستطيع لها نقبا، و حين يحين موعد زوجها أخرجيه و انقعيه في ماء ليلة كاملة تحت نجوم ليلة مقمرة و حمميها به عند الفجر، و زفيها لزوجها."
عدنا أدراجنا و إحساس غامض يعتريني، لقد صار ثمة جني يحرس بوابة الشرف بين فخذي.

mercredi 3 décembre 2008

المدرسة



أمسكت معصمي بقوة أحسست معها بشقوق راحتها الخشنة تطوقني، انتظرنا إلى أن فتح باب المدرسة الصدأ المتآكل الحواشي؛ أصدر أزيزا قويا و أطل منه رجل ممتلئ الجسد قصير القامة، تراكض الأطفال نحوه صرخ فيهم طالبا النظام ثم ولى عنهم إلى الداخل و بدأ الأطفال يتسابقون لدخول فتصاعد الغبار من حولنا، فتقهقرت هي سحبتنا يدي، دخلوا جميعا ؛ و بقينا لوحدنا تحيط بنا جدران المسجد و المستوصف الصحي.
توسطت الشمس السماء و ارتفعت الحرارة، تعبتْ من الوقوف فسحبت يدي من جديد و قصدت ظل إحدى زوايا حائط المستوصف، و والت ظهرها للباب المسجد الذي خرج منه بعض الأطفال في تلك الأثناء، نظرتْ إليهم و هم يمرون من أمامنا بعينها الوحيدة التي تظهر من خلف اللحاف الأزرق الذي تسدله على كامل جسدها، ظلت ترقبهم إلى أن تواروا، سمعت زفرتها من خلف اللحاف؛ انتظرت أن تقول شيء إلا أنها لم تعلق بأي شيء .
الآن تذكرت أنها ظلت صامتة منذ خرجنا من الدار و أنها لم تتناول شيء عدى حساء الشعير الذي احتسته بعد صلاة الفجر، و رفضت شرب الشاي، و حتى رقية لم تلح عليها و لم تجادلها كعادتها ذاك الصباح، عمي لم يكن موجودا حين استيقظت و ربما لم يعد تلك الليلة أصلاً.
بعد برهة جاءت امرأتان ملثمتين مثلها، إحداهن تمسك بيد طفلة صغيرة ترتدي فستان أزرق، بهت اللون من كثرة ما نشر في الشمس، و تتدلى ضفيرة خفيفة خلفها. أما الأخرى فكانت ترافق طفلا أخرجت له من أسفل للحافها الأسود قلم حبر أزرق و ورقة مثنية على أربع مدتها له؛ أمسكهما في عجل و ركض نحو باب المدرسة، و اختلط بالأطفال بالساحة على مرأى مني.
لمحت بعض أطفال جيران بيت أبي، يركضون في كل اتجاه بالساحة منهم من حدق إلي و أشار بسبابتهم ينعتني للآخرين قبل أن يعود للعبه.
تقدمت المرأتين نحونا سلمتا على جدتي و سلمت هي عليهن، لا أدري كيف تعرفت عليهن و لا كيف تعرفن عليها بسهولة من خلف اللحاف الأسود الذي يسبغن عليهن؟! أم أن العين الوحيدة التي تبرز من كامل الوجه كافية للكشف عن هوية الجسد الذي لف في فيه!!
سألنها عن أحوالها فحمدت الله، و سألتهما بالمثل و رددن على التوالي بالمثل، ثم سألنها ماذا تفعل أمام المدرسة، أجابتهما أنها جاءت بي، و لولا إصرار ابنها لما تركت أشغالها لقف هنا، فلا فائدة ترجى من ارتياد المدارس. تمتمتا موافقتان، و واصلت إحداهن قائلة:« لما لا تلحقيها بالمسجد فجل فتيات يدرسن لدى الفقيه سي "لحسين ءو عُمَر"؟." أجابتها بصوت ساخط:« لقد رفض أن تدرس لديه.»
استغربت المرأة قائلة:” رفضها ! لماذا؟" .
صمتت و لم تجبها بشيء و ظلت تحدق بما يشبه الحنق إلي، و بعد للحظات قالت:« لقد ألحقنها قبل أشهُر بالمسجد.. ضربها الفقيه فرمته بلوح أصابه و كسر عظم أنفه فطردها.. الله يهديها"
أجالت المرأتين في عينيهما يتفحصنني، لا أدري هل قلبتا شفاههن داخل الرداء أم اشمأزتا، أو دعتا في سرهن بالمسخ على طفلة تجرأت على ضرب فقيه يقبلن يده و يخصصن له الطعام و الهدايا كي لا يُحرمن من الأطفال و لا تقحل الأرض و لا تيبس ضرع الأبقار و لا تعقم أصلاب ذكورهن.
في تلك الأثناء سَمعنا وقع خطوات و صوت رجل يلقي السلام على مدير المدرسة الذي يحاول إغلاق باب المدرسة. التفت إحداهن إلى الرجل القادم فقالت:« أنه الممرض"
اعتدلت الأخرى و أمسكت بيد الطفلة التي يبدو أنها سهت عنها منذ وقفت تحدث جدتي؛ و قالت:« علينا أن نذهب قبل أن يأتي الناس للمستوصف، هل ستذهبين يا لالة زينة؟" طأطأت جدتي عينها قليلا ثم رفعتهما إلى المدير الذي أغلق إحدى دفتي الباب و بدأ يعالج الثانية، ونهضت معتمدتا على الحائط خلفها، دون أن تقول شيء أمسكت بيدي و بقيت وافقت للحظات على ذاك الحال، لم أستطع تخمين ما كانت تفكر فيه، أو ما كانت تنويه؛ هل ستسلمني للمدير أم تعيدني للبيت ليستمر شجارها مع عمي كما كان منذ أخبرها أنه سجلني بالمدرسة، و أن ذاك كان رجاء أمي قبل السفر، رفضت وردت عليه صارخة قائلة :« لو كان يريد العربي لابنته أن تلج المدرسة لكان أخذها معه لفرنسا، أفإن خاف عارها هناك، نكون سببا له هنا.." قالت كل ما استطاعت لتثني عمي عن قراره، إلا أنه لم يزد عن القول :« أنا المسؤول عن شامة و إن شاء الله لن تخذلني..»
يومها باتت تلعن حظ ابنيها فأحدهم رحل ولا تدري ما حل به في بلاد النصارى، و الآخر ابتلى بامرأة عاقر لا تصلح لشيء، و بت أنا أفكر كيف ستكون المدرسة؟

samedi 9 août 2008

قبلة على برج إيفل


بعد برهة لا أذكر كم طالت، لكن أذكر أنها أول اللحظات قربا بيني و بين عمي، أعادت إليّ شيء من الثقة بالرجل شرط أن يكون بوداعة عمي، و بصوته الهادئ الرخيم ،و بعينيه المانحتان للآمان . كم تبدو أحلام النساء بسيطة إلى حد السذاجة أحيانا، و ربما لهذا لا يأبه أحد بتحقيقها لهن! لو كانت لنساء أحلام كبيرة لتحققت ، و لنالت الأحلام الصغيرة شفعتا تقودها نحو التحقق ، يجب أن تكون لنا أحلام كبيرة لنحقق الصغيرة . لم ندري إلا وصوت رقية ينادينا لأفطار و ينهي جلستنا تلك. إمتثلنا لندائها و قصدنا غرفة بمحاذات المطبخ ، جلستُ بجانب المائدة وُضع فوقها إناء مملوء بالزيت و خبز ساخن تفوح رائحته مع البخار المتصاعد من المنديل الذي لف فيه. تربع عمي حول الصينية ليعد الشاي، الذي يصير إحدى مهامه حين يكون حاضرا ، تخلفت جدتي عن الجلوس لبضع دقائق ثم عادت تحمل إناء به عسل، قلما تقدمه لنا فقد تعودنا تركه لضيوف أو حين يصاب أحدنا بنزلة برد حادة، فلابد أن اليوم مميز لدى جدتي ، هل لأن عمي صار يتغيب عن البيت لأسبوع أو أكثر ،و صار في عداد المسافرين الذين تشتاق إليهم جدتي. كأغلب العجائز تحب جدتي كثرة الإدخار و تحشره في خانة السنن التي أوصى به النبي العدنان ، تدخر الشاي و السكر و الزيت و العسل و السمن و اللوز و الأثواب و العطور و الأواني و الصور ربما حتى الأحلام و الأفرح، تحمل دوما مفاتيح خزائنها في صدرها بعد أن تشدها بدبوس كبير إلى ملابسها الداخلية ، لا تزيحه إلا أثناء النوم لتضعها أسفل وسادتها و عند الصباح تعيدها إلى مكانها بصدرها. في مرات قليلة دخلت فيها الغرفة التي تدخر فيها جدتي دخائرها ، بوسط الدهليز الذي يفضي أحد أطرافه إلى باب البيت الخارجي و الطرف الأخر إلى فناء وسط البيت ،كانت غرفة بلا نافذة لأن الضوء كما تقول يفسد طعم و لون الأشياء !كانت الرطوبة نافذة لكنها محتملة، جرار مغلقة أحكمت رابطة الخيش حولها، مرصوصة عند المدخل فتحت جدتي إحداها و أخدت كأسا نحاسي و غرفت شي بقعرها حين صبته بقنينة المطبخ تبين أنه زيت، و كلمت نفسها قائلة؛ قد لن تكفينا لموسم آخر إن لم تلد أشجار الزيتون كحالها هذا الموسم ، إتجهت نحو عمق الغرفة تبعتها و إن كنت لا أرى شيء بفعل الظلام المسيطر على المكان، فكدت أتعثر بإحدى الجرار، فنهرتني على الفور ، بقيت في مكاني حتى ألفت عيني الظلام و تبينت محتويات الغرفة و رأيتها تفتح دولابا و تشتم بعض القطع به إقتربت منها أكثر فإكتشفت أنها أتواب ملفوفة في غطاء رأس مزركش بالأحمر و الأخضر وضعتها على الأرض و قالت :" يجب أن نعرضها لشمس" ثم تابعت بحثها في الدولاب و أخرجت لفيفة أخرى حسبتها ستشمها مثلما فعلت بالأولى، إلا أنها ثنت ركبتها و أسندتها إلى باب الدولاب، ثم وضعتها عليها و فتحتها بعناية؛ كانت بها إطارات الصور أو صور بإطارات، إختارت منها صورتين و وضعت البقية في الدولاب، مسحت الصورتين بكم ملابسها و بقيت تتامل إحداهما ، ثم مدتها لي قائلة :"هذا جدك ." صحيح أن الظلام كان يخفي تفاصيل الصورة إلا أن بصيص النور المنبعث من الباب كان كافيا ليظهر لي وجه رجل يضع طربوشا أسودا ، أو لعله كان سيكون لون آخر لو كانت الصورة بالألوان ، و يرتدي جلبابا أبيضا ، كان يجلس على كرسي و ينظر بشيء من الشرود أمامه ، و كان يرتدي نعلا تظهر منه مقدمة أصابعه، تفحصت الصورة بدون أي إحساس يذكر نحو هذا الجالس فلم أراه قبل هذه الصورة ، أعدتها إلى جدتي و قالت و هي تضعها في الدولاب:" قولي رحمه الله" قلت ما طلبته مني، و أخذت الصورة الثانية أعادت مسحتها جيدا ثم قبلتها و مدتها إلي ، كان وجهه على حاله، و حاجباه الكثان المقطبان على حالهما ، عيناه تبرقان في الصورة و كأنها تتوعداني كعادتهما ، سرت في جسدي رعشة و كاد ت أرشح بعرق بارد قبل أن أعي أنني أنظر إلى صورته فحسب، كان واقفا مسندا يده إلى سياج خلفه بمستوى حزامه و من الخلف ظهر شكل مثلث حديدي تلامس قمته السماء الغائمة، لم يكن ذلك المثلث سوى برج إيفل. أعدت الصورة إلى جدتي أمسكتها و قربتها من فمي و قالت بصوت حازم : " قبلي أباك" ترددت قبل أن أضع شفتي فوق قمة البرج و صدر عن إفتراق شفتي بزجاج الصورة صوتا ملائها بالرضى فسحبت الصورة و أعدتها لمكانها بين الصور و هي تدعو له بأن يحفظه الله. لو أنها علمت أنني أثرت تقبيل البرج على وجه إبنها ماذا كانت ستفعل بي!؟



mardi 5 août 2008

التنور



في حِجر عمي بدت البيوت الثلاثة أمامنا صامتة تنفث دخان الفرن الحامل لرائحة الخبز الصباحي، و بقية من أحلام فاضت عن الليلة الماضية، و أمنيات أحرقتها ألسنة اللهب مع الخشب، و إستهامات مَنْ تجلس مقرفصة أمام التنور المحموم تتجنب مواجهة الدخان و النار المنبعثين من الفوهة كي لا تدمع عينيها فتخطئ يدها و تصطدم بحافته الملتهبة أو تلفح الألسنة إيهاب يديها، كثيرا ما سمعتهن يدعون دون أن يأبهن لحظوري ، ربما لأنهن إستصغرنني أو لأنهن يتنبأن بجلوسي قريبا أمام التنور مثلهن و أتلوا بنفس التأفف نفس دعواتهن ؛ بأن يأتي يوم أتخلص فيه من الجلوس إلى التنور ثلاث مرات في اليوم عبر تعاقب الفصول. لا محال أن دخان اليوم الباكر تصاعد هو الآخر بنفس الدعاء إلى السماء. إن صح أن الدخان ساعي الدعوات فيا كثرة ما سيحمل من بيوت جيراننا، سيحمل دعوة " لالة زينة" بأن يقهر الله ضرتها و يعيدها من حيث أتت قبل أن يتزوجها" بابا الحسين " و يطلق العنان لخيال أهل القرية ليجدوا سببا لزواجه بمن تناسب أن تكون زوجة لأكبر أبنائه الثلاثة، الكل كان متعجبا من تصرفه؛ فالتعدد نادر في القرية، فلا أذكر حالة أخرى غير حالة جارنا هذا ربما ذالك راجع للوضع الإقتصادي لسكان القرية ،أو أن التعدد شذوذ لدى الأمزيغ. سيحمل الدخان أيضا دعوات خديجة ـ إبنة لالة زينة ـ بزوج يريحها من تِعدادِ تسرب أيام عمرها بين بهثان جدران الحجرتين الشبيهتين بجحرين إقتطعهما أبوها من زريبته و جعل لهما باب خلف بيته كي لا تصطدم بهم عروسته، التي أخدت باقي البيت، بالفناء الواسع بإحدى زواياه تشمخ شجرة الرمان و حوض به مسك الليل، و نصف الزريبة المتبقية بما فيها من بهائم بعد أن سمح لهم الأب بأخذ نعجتين و بضع دجاجات و أبقى لنفسه على الخرفان و ثلاث دجاجات و الديك و البقرة و الحمار ، هذا هي القسمة التي تراضى عليها الأبوين ليفصلهما الجدران كما فصلهما دوما، مع أنهما لازال مقترنين على صفحة من ورق. في الليالي المقمرات تتساءل خديجة إذا ما كان الأب الآن يتعشى مع عروسه بالفناء أسفل شجرة الرمان و عبق مسك الليل كما كانوا يفعلون قبل إنفصاله عنهم؟
هي تعرف لما إنفصلا أبويها، فرغم أنهما أخفيا السبب عن فضول أهل القرية، و يجيبان دومان بأنه "المكتوب و المقدر" لكنهم لن يستطيعان إخفائه عن أبنائهم و تحديدا خديجة، التي كانت تشعر بالبرود الذي إعتراهما حتى صار أحد هما لا يوجه بصره ناحية الآخر . منذ سنة و نصف إنتقلت الأم لتنام بغرفة خديجة ، صحيح أن الأجواء العامة كانت هادئة لكنه مجرد تصنع أو هدوئ ما قبل العواصف . فقط حين يشتد كرهنا و حنقنا لأحد يصير النظر إليه أو لمسه بغيضا و مقززا ، هل صار يكرهان بعضهما لهذه درجة القرف من بعضهما!؟
ذات ليلة قبل الإنفصال بعدة أشهر كانت تنام بنفس الغرفة مع أمها ، تظاهرت بالنوم حين سمعت متسللا ميزت صوت أباها المنخفض يدعو أمها لغرفته، حين رفضت إجابته قال بنفس الصوت المنخفض :" إتفو عليك ، يا عدوة الله، تمنعيني حقي! فلتلعنك الملائكة و لتكن لليلة بلا غد..!" لم تحرك الأم ساكنا ، و قف قليل ثم غادر الغرفة تارك بابها مفتوح، بعد لحظات قامت الأم و أغلقت الغرفة و راحت تجهش في عتمة الغرفة بصوت مكتوم. فليحمل الدخان الدعوات إذا، لكن ماذا لو إستجاب الله و أهداها عريسا يتغاض عن مسحة القبح التي تحجب نزر الجمال الذي ورثته عن أمها، و عن حول عينيها، و عن الحروف التي تخرج منطوقتا من أنفها ، ماذا لو جاء بعد تآكل لهفتها من الإنتظار، ماذا لو تكرر معها ما سمعته تلك الليلة من أبيها، هل تقبل أن تلعنها الملائكة حتى الإصباح ؟ ألا تلعن الملائكة غير النساء؟
لا لن تسمح بذالك لأنها أكثر ذكاء من أمها، أو هكذا تصورت حينها، ستعطيه حقه ، طالم أن هذا الحق الذي خرب عائلتها لا يتجاوز في حجمه فتحة أصغر من فتحة التنور بكثير ، و لن يكلفها الأمر ما يكلفه تنور الخبز من عناء و تعب و عرق و إحتراق ! لكن هل غابت هذه الحيلة عن الأم التي كانت ستجنبها الخروج من بيتها مذلولة أمام أهل القرية، و قضاء ما تبقى من عمرها في جحرين لا يتسعان لدجاجاتها و نعجتيها فما بالك بخمسة أشخاص، و تقنع بما يفضلُ عن الأب يوم الخميس من مؤونة الأسبوع بعد أن تأخذ عروسه ما تشاء مما جلبه من السوق و يأتيهم بما عافته نفسها بعد أن شاع خبر وحمها بين الجيران!؟

samedi 26 juillet 2008

السلهام




تستيقض القرية كل صباح بنفس الوجه المتعب المغبر المشقق ، الهيئة التي ذأبت عليها منذ آخر موسم مطير، كوجه عجوز ضامرة الصدر تعبت من إعداد متكأ لربيع عمرها عله ينغوي و يعود ليزورها كما كان في الزمن الماضي. كيف يهتدي الربيع وحده لعنوان لم تقده إليه سحابة شتاء!.
أتت سنة عجفاء على أغلب مخزون الماء و الشعير و الزيت و الأحلام و الفحولة، فركب الرجال طرق الرحيل كي لا يصبح مائهم أغور من ماء الأبار المالحة، و العيون التي لم تعد تتدفق كما في الماضي ، أو يصبحوا مجرد وادٍ مليء بتراب ندي يُذكر بمياه إخرقته ذات عام كواد شيشاوة .
حان دور عمي هو الآخر ليسلك إحدى مسالك الجبل نحو هضبة إيمينتانوت ليشتغل نادل بأول مقهى يُقبَل به بعد أن كثر النازحون. هكذا صر ت لا أراه إلا مرة أو مرتين بالأسبوع ، حين يعود ليلا يتسلل إلى غرفة جدتي ليضع لي حلوة و قبلة تحت الوسادة ، حتى إذا ما تقلبت ليلا تعثرت بهما و إستيقظت باكرا لألقائه ، كثيرا ما كنت أفتش وسادتي أكثر من مرة خلال الليل و الصباح. جميلة طريقته في إعلامي بحضوره ؛ في حياتي لم يحرص عليها رجل غيره.
ذات مرة صادفت قطعة شكولاطة مغلفة في قطعة ورق لا علاقة لها بها، بقيت ممسكة بها إلى أن رأيت أول شعاع الشمس عبر ألواح باب الغرفة الغير مصبوغ ، فغادرت الغرفة بحثا عنه في باقي الغرف متجنبتا سؤال رقية عنه التي ستنهرني حتما و تكلفني لامحالة بإعداد الفطور معها، حين وصلت لغرفة الضيوف المجاورة للباب وجدتها مقفلة كالعادة و باب البيت مفتوح ، إتجهت إليه لعل جدتي أخرجت نعاجها الجائعات ؛ التي صارت مجرد هياكل مكسوة بالصوف لراع يقودها للغابة بأعلى الجبل علها تصادف شيء تأكله هناك بعد أن شحت الحقول و المراعي و إنتهى التبن منذ شهور .
عند الباب ألفيت جدتي واقفة عند رأس عمي الجالس الملتحف بسلهامه الأسود سلمت عليهما، وقفت إلى جانب جدتي التي كانت قد إنتهت لتوها من سؤاله ؛ عن حاله بالمقهى و أخبار عمتي فاطمة التي تسكن بإيمنتانوت مع زوجها و أبنائها الخمسة، و غادرتنا إلى البيت.. بقيت في مكاني أمص الشكلاطة ببطء كي لا تذوب و تنتهي بسرعة ؛ لا أدري كيف إقتنعت أن فتح الهدية أمام من المُهْدِي و التلذذ بأكلها أمامه إن كانت تؤكل طريقة مثلى لإخباره أن الهدية قد أعجبتنا!. كان الصباح بارد شيء ما فضممت يدي إلى صدري، لاحظ عمي حركتي فأفرد سلهامه و أشار إليَّ دون أن يقول شيء، جلست على ركبتيه، فوجدته يطوقني بدراعيه و بطرفي السلهام الذي ضم دفئه جسدينا معا ، أحس ظهري بعلوا و هبوط الأنفاس بصدره ، كان صوته خافتا و قريبا جدا من أذني و هو سيألني :" هل أنت بخير؟"
جميل أن تُسأل إن كنت بخير ـــ في وقت لا أحد يهتم أو يتصور أن لا تكون بخير طالم أنك تجلس لطاولة الطعام أربع أو خمس مرات، و تستحم كل خمسة عشر يوما، وتتكلم بلا توقف طيلة النهار، لدى فأنت حتما بخير و لاداعي لسؤالك ـــ و الأجمل أن يوشوش السؤال في أذنك؛ قربه يوحي لك بأنه أصدق ما سمعت .
أجبته أني بخير ، و في أعماقي تحسرت أن أبي لم يهديني لحظة دفئ و قرب مشابهة، ماذا كان ينقصه طالما أن لديه سلهاما مماثل؟! لا أذكر أن عمي سألني غير ذاك السؤال، و إنصرف ببصره يتأمل البيوت الثلاث المقابلة لبيته، أما المارة فينذر مرورهم بحينا في تلك الساعة
.

dimanche 20 juillet 2008

نصف دورة



كانو يبتعدون مثيرين الغبار ورائهم و الإحساس بالنبذ داخلي، تتبعتْ عيناي سيارتهم في ذهول طفولي ساذج؛ هل فعلا كانوا يعنون ما أقدموا عليه، أم أنهم سيقومون بنصف دورة في أية لحظة ليعتذروا عن مزحتهم الثقيلة تلك و يأخذوني معهم؟
إختفت السيارة خلف الجبل و تركت أثرا قد يقودني إلى خطاهم، لكن لن تقودهم إليَّ ، لأن من السهل إقتفاء أثر رحيل مَنْ رَحَل للوصول إليه ، و صعب على مَنْ رحل أن يقتفي أثره ليعود للحظة ما قبل عناق رحيل، لأنه حين يعود يختار طرق و أسباب و درائع و حمقات أخرى للعودة ليست بالضرورة تلك التي سلكها ليرحل، هم أيضا لم يعودوا من ذات الطريق الذي تركوني عليه ؛ فبقيت مدينتا لهم بنصف دورة إستكثروها و إعتذار ترفعوا عنه. مريع أن تحس في ذالك السن بالحزن يجتاح كيانك الغض، و لا تعرف كيف ترده، و لا ما تصنع به حين يتكوم بذالك الحجم بداخلك، قبل أن تتعلم مجارته و التعايش معه كأنه عضوا أخرى بين أعضائك التي ولدت بها، أو ضيف عنيد يبقى حين تريده أن يرحل، و يرحل حين تدعوه ليبقى، تعرف في جميع الأحوال أنه ضيف و إن طال مقامه سيرحل لكن في الآن ذاته تعرف أنه ضيف شريد، سيعود إليك لأن لا مأوى له سوى صدرك ذو الحقب التاريخية الموغلة في الأنين، و سيكون هناك دائما مناسبة ما تبيح له تلك العودة ، صحيح أن التسّمر بزاويا الشرود و الترقب دون أن تبصر ، دون أن تنتظر ، أو تتمنى شيء محددا مضجر و مملل لكن التعود يهون كل شيء. لم أكن لحظتها طفلة سافر أهلها فحسب، لكن كنت مدركة أني خطأ متروكا خلف كي لا ينشغلوا عن أحلامهم بحراسته! نقل عمي إبراهيم أغراضي إلى بيته ، و بعد أيام قادتني جدتي إلى هناك،
حينها أدركت ما معنى ما حل بي ، فمن يومها صار عليَّ أن أستأذن لألمس الأشياء،لأخرج ،لأكل، لأغير ملابسي، لأنام و لأحلم . كان أيضا يجب أن أجسد دور المتخلى عنها حين تأتي إحدى الجارات و تسرد عليها جدتي قصة رحيل إبنها، الذي لم أناديه بأبي من يوم حدق إليَّ قبل يومين من السفر و قال بصوت مهدد:" إن سمعت أنك تكلمتي مع أي رجل سأتي لأذبحك!" كان فعل الذبح ملفوظا بقسوة كافي ليشعرني أنه قد تم، و أني ربما مضرجت بدمائي أسفل رجليه، و حدها عيني تأكدت من أنني أتوهم المشهد ، حين رأيته يخفض إصبعه الذي كان يشير به إليّ و يولي إلى شؤونه، حين أتذكر ذالك أضحك لأنه قد تنبأ بما ستأول إليه أموري لاحقا، أليس من العقوق أن لا أحقق نبوأته الأخير، لعل ذالك يرفعه إلى مصاف الأنبياء !. ضلت جدتي تحكي أسباب رحيلهم لكل زائراتها لأشهر متوالية بتفاصيل جديدة كل مرة لا أدري هل كانت تجزع لرحيل إبنها فتستمتع بذكره ، أم كانت تريد بشكل لا واعي أن تذكرني به كي لا أنسى أنه كان أبي و أن عمي إبراهيم ليس بأبي حتى و إن كان يناديني بإبنته! . في كل مرة تصاحب حكيها بإحتضني و تتلوا عبارات الشفقة و الدعوات بعودة الغائب سالما إلى الديار ، لم تشمل دعوتها أمي أبدا و كأنها لم تكن موجودة أبدا، لا أدري أكانت خلافتهما كافية لتتجاهل ذكرها! ! كرهت نظرات الشفقة و همساتها التي زرعتها جدتي في كل معارفها و زائراتها، تواطئت حتى مع الصغار، فكنت إذا ما لعبت مع بنات الجيران تخرج لتوصيهن ، و تعطيهن هديا أشبه برشاوي علنية ليحسنّ معاملتي. سلوك جدتي زاد من إرباكي لكنه قربني منها شيئا فشيئا حينها ، عكس رقية زوجة عمي التي لم تستسغ وجودي أبدا، ربما بسبب إصرار عمي على التصرف و كأني إبنته التي شاءت أقداره و أعضائه أن لا يلدها
.

mercredi 9 juillet 2008

الرحيل


أعود الليلة لتجسس على الذاكرة، و الإنصات لهذيانها، بعد غياب غير مأسوف عليه، لأني إمرأة تستمتع بالغياب كما تستمتع بالحضور، تتقن دور الجاسوسة كما تثقن دور القديسة.

على الأوراق لا تكاد تميز بين الخيال و الواقع لأن لها قابيلة عجيبة لتصديق كل شيء . و مع ذالك تكفيني نظرات إبني المستيقظ و صراخه بحثا عن ثديي ليعيدني لواقع الأشياء من حولي، و يكفيني حضن حبيبي أو شيء من ريقه لأثمل و أصل للفناء . لا أدري كيف تعلمت تقدير اللحظة و الإنسياب مع تموجات الحياة مهما كانت قاسية؟ حين أفكر فيما عانية أتساءل من أين تأتيني كل هذه القوة للإستمتاع بالأشياء البسيطة جدا أو الحقيرة حتى! أحد أصدقائي صدمني قبل أيام و هو يقول لي :" أكيد أن هناك خَلَلٌ بعينيكِ،لأنكِ ترين البشاعة جمال، و القبح حسن ، و لو أنك عاينت مجاعة أو كارثة طبيعية أو حربا لا تغزَّلتي فيها!! صديقتي يجب أن تُعجلي بفحص عينيك لأنهما ليستا طبيعيتين أبدا.!" ربما هو على حق، لكن منذ متى يجب أن يتشابه الناس لكي تدور الأرض!. حين أقف أمام المرآة عارية قد لا تختلف الصورة المنعكسة عن جسد أية غانية قد تمنحه بمقابل مادي أو معنوي لأول متسول تلتقيه؛ لكن أعرف أنني إمرأة إستثنائية و لا أنتظر أن يقتنع بذالك سواي، لأن كل مآسي لم تُضعِف تقديري للإنسانة التي بداخلي و لا أثق كثيرا في سواها، فهي وحدها إحتملت معي ما مر دون أن تتخلى عني يوما لتؤثر الإنتحار على مرافقتي؛ لم أسمع أن أحد قَبََّل نفسه كما أفعل ! فهذا ما علمتنيه الوحدة، حتى و إن كنت محاطة بجوقة لا تحتفي بغيري!، قد تقولون مجنونة أو شاذة، لا يهمني رأيكم كيفما كان، فقد لن تختلفون عن بائع الورد الذي تَعَودَني في محله كل صباح حين أخرج لشراء الخبز و الجرائد، و الذي دفعه حب تملك المعرفة كما دفع آدم من قبل ليقول بذكاء الغبي و هو يلف لي الوردتين:" لقد جلبت بطاقات إهداء بها عبارات جميلة يمكن أن أضع لك واحدة بين الوردتين ، قد تعجبه.!" لا أدري ما الذي حداها لتلك الصياغة آسذاجته أم فضوله المقيت! أجبته:" شكرا لا حاجة للبطاقة؛ الوردتين تقولان كل شيء!" لم أشاء أن أعطيه يقينا يريحه ظنه ، فماذا كان سيقول لو أخبرته ساعتها أنني أهدي الوردتين لي؛ كي لا أنتظرها من آخر ينسى دوما أن يعود ، و إن عاد سينسى حتما أن يجلب لي الورد!.
حين تحيطك الوحدة من كل جهة؛ فيجب أن تتعلم الإنصات لنفسك لتستمر، وتهبها تعويضات عن الغائبين كي لا تزعجها بالتفكير فيهم و بفداحة ما فعلوا بك ذات يوم قبل الرحيل، فكن كالرب الرحيم و اغفر لهم فهم لايعلمون حجم الألم الذي كانوا سببا فيه، حين يتخلى عنك أقرب الناس فيجب أن تتعلم الوقوف و المشي لتركض من جديد، عليك أن تتعلم الإستغناء عن كل ذات غير ذاتك. و تحاول ترميم ما هُدِّمَ فيك؛ و إن بدا ذالك مستحيل؛ فلا شيء يغنيك من المحاولة تلو المحاولة، و ما الحياة أصلا سوى تعاقب المحاولات.
لا أذكر تاريخ ذالك اليوم بالضبط ، لكن يمكن أن أجزم أنه كان الأسبوع الأخير من غشت1971، أستطيع أن أغمض عيني لأحل في تللك الغرفة أو لتحل هي فيا الأمر سواء، لا أذكر لون ما كنت أرتديه ، وحده طول الغرفة بقي عالقا في ذاكرتي لا أدري هل هي طويلة إلى ذاك الحد أم أن الذاكرة تبالغ فيما تُصوِّرُه لي! في تلك الغرفة قرروا مصيري أو على الأصح أعلنوا ما قرروه في شأني من قبل، حول مائدة المستديرة ذي الثلات أرجل كان يتحلق أبي و عمي و جدتي و أخي الأكبر يناوبون رشفات الشاي و حبات الفستق و اللوز و الكلام عني، كنت مشدوهتا لما أسمع، متتبعتا حركات أرجلهم أسفل المائدة، غير مبالية بدارع أمي التي تطوقني منذ جلسنا بالزاوية الأخرى للغرفة الطويلة لنشرب معهم الشاي أو لنعقد الإجتماع العائلي الأخير الذي لم يكن لنا سوى حق التفرج ، و الإيماء بالرأس إيجابا أو الصمت رفضا، لكي لا نوقظ أخي الرضيع الذي يغفو بجانبنا بتلك الزوية، لا أذكر تفاصيل كلامهم لكني فهمت أنهم سيسافرون و سيتركُنني هنا لأن فرنسا تفسد تربية البنات! نظرت إلى أمي علها تبدي إعتراضا ، علها تتمرد و لو مرة واحدة في حياتها، و تتشبت بي؛ لأني لم أختر أن أكون أنثى و لو كنت غير ذالك لما تجرؤ على تركي لجدة عجوز، و عم عاقر و زوجته الطائشة ، و سنواتي الثمانية لأعيش اليتم دون أن أعرف ماذا يعني. حين لم تحرك أمي ساكنا أمامي توسلاتي الصامت؛ إنتفضت من حضنها تذمرا منها أو عقابا لها، صعدت إلى السطح و أغلقته لأني أعرف أن صعوده كان مرفوضا، لأن سقف البيت كان مهترئ و أي حركة قوية قد تهدمه، في قرارتي تمنيت الآن لو أن حركاتي الضعيفة كانت تكفي لأهدمه فوق رؤوسهم لتكون تلك الغرفة قبرا لهم كما كانت قبرا لي، لكن لم يحدث ذالك و لم أسمع سوى صوت أمي خلف باب السطح تحاول وداعي أو مواستي، لم يصلني كلامها لأن محرك سيارة أبي كان يصرخ في فراغ القرية؛ التي لازالت تقضي قيلولتها، و كأنه كان ينوب عن فم أبي الذي لم يكن يختلف عن محرك "المازوط " ذاك، و من السطح رأيتهم يضعون حقائبهم بالسيارة و يصعد أبي و أخي الأكبر بالأمام، و أمي و أخي الرضيع بالخلف، وحدها أمي من رفعت عينيها الدامعتين نحو السطح لترى شبحي الناحب
.